!شيء ما غريب، حتى في الهواء
1-
عندما دخل جواد إلى غرفته كان كل همه محاولة النوم واستدعاء أكبر قدر ممكن من رائحة الورد. ولكن ما أن لمح الخزانة الصغيرة في زاوية الغرفة، حيث وضع الحقيبة، حتى أحس باضطراب أدرك معه أن النوم سيكون عصيا جدا. وما زاد الطين بلة، أنه لن يعرف أبدا كيف ستكون ردة فعل لميس في حال علمت بالأمر. كيف ستنظر إليه؟! لميس التي عرفها خلال الساعات الماضية أظهرت وجها آخر لم يكن يتوقعه أبدا. أو على الأقل فإن تلك المسافة، التي أصر على البقاء ضمن حدودها الخارجية دائما، قد أبقتها بعيدة بشكل آمن ليرسم لها الصورة التي تبرر له البقاء بعيدا عن تلك الأنثى. التي تملك حضورا طاغيا يجبر أي ذكر، مهما كان متحفظا، على إرسال ولو إشارة صغيرة، وهذا فقط حتى يبقي على حد أدنى من الاحترام لذاته. أما الآن، ولميس قريبة بشكل لم يكن يحلم به أبدا، فإن الصورة بأكملها قد انقلبت رأسا على عقب.
حتى ما كان موقنا من حدوثه لم يحدث. لم تستدع قريبها ولم تأت على ذكره أو حتى محاولة الاتصال به في أي وقت، رغم الحاجة له. وأمام كل ما أبدته من لهفة صادقة وثقة غير عادية به، أصبح مطالبا بأن يبرر سلوكا هو في حده الأدنى مشين، وفي أمر لها علاقة فيه بالتأكيد.
كان يمكن لهذا الضيق أن يخف مع مضي الوقت والابتعاد، الذي بات مفروضا بحكم الأمر الواقع، عنها. ولكن هناك شيء ما في داخله كان يلح بوضوح على أن ما حدث بالأمس واليوم لم يكن إلا بداية لشيء قد يكون الأجمل في حياته كلها. وأن هذه الحقيبة المتروكة في الخزانة الصغيرة في زاوية الغرفة ليست إلا مصيبة متربصة في طريق سعادة طال انتظارها. ولم يخب ظنه هذه المرة، إذ ما أن جلس على طرف السرير مدققا النظر في الخزانة في الزاوية حتى رن جواله وظهر أسمها على الشاشة.
2-
لم يستطع النوم أبدا، بالرغم من أنها عندما ودعته في مكالمتها الأخيرة طلبت منه، آمرة وهي تضحك، أن ينام. من أين أتتها كل هذه الثقة؟! قطعت تلك المسافة، التي تَمسّك بها من طرفه، بيسر من يعرف الطريق سلفا. وكأنها تتحرك في حيز خاص بها وحدها. قادرة على أن تطلب منه ما تشاء ومقتنعة بأنه سيفعل. وهو لو استطاع فلن يتردد، ولكن كيف له أن يفعل وكل شيء اجتمع عليه دفعة واحدة وبدون أي سابق إنذار؟
أعوام كاملة عاشها بعيدا عن كل شيء، عن المبادرة في فعل أي شيء يخرج به من الدائرة التي وجد نفسه عالقا فيها فور تخرجه وإنهائه لخدمة العلم وبدئه لحياته العملية. الوظيفة الرسمية الأولى التي علق فيها، حيث كان الالتحاق بخدمة الدولة عند تخرجه ما يزال إجباريا لجميع المهندسين، مدركا أن أي راتب شهري سيكون محطة أولية مطلوبة قبل البدء بمحاولة استكشاف أفق لم يكن يرى منه أي شيء؛ تحولت تلك الوظيفة إلى مصيدة. اكتفى بالدوام لساعات طويلة، ولسنوات أطول، في معمل برادات بردى، إلى أن حضر نبيل في إحدى إجازاته وصدف أنه يعرف متنفذا في وزارة الصناعة فقام بتدبير واسطة له للانتقال إلى الوزارة. عدد ساعات الدوام القصيرة هناك ستعطيه الفرصة للبحث عن عمل آخر يسنده براتب إضافي. وهو، أي نبيل، من استطاع تأمين ذاك العمل الإضافي مع زميل دراسته الجامعية أيمن، معتقدا أنه بذلك قد قدم مساهمته كاملة بحق أسرته معطيا إياها معيلا بعملين وراتبين. ومعفيا نفسه بالمقابل من „النقّ“ عليه بتأمين فيزا لأخيه للعمل في الدوحة. إذ كيف يمكن لجواد السفر وأمه وشقيقته بحاجة إلى من يبقى معهما.
مربوطا من رقبته برسن. هكذا كان يحلو له أن يصف نفسه، مستسلما تماما لدائرة ما عاد له أي أمل بخرقها والبحث عن أفق وحياة جديدين له. لا حياة خاصة إلا في حدود تلك الغرفة الضيقة، حتى غرفة عادل كانت أكبر من غرفته!! أما الحب، أو الإرتباط، فقد كان مشروعا ملغى وليس مؤجلا فقط. فمن هي التي سترضى بأن تنزل ضرة على أم وشقيقة عانس؟! ترك الحياة تسيّره بعبوس وبخل كاملين إلى أنّا شائت، وعندما اتخذ قرارا، هو الأول في حياته كلها، عادت الحياة لتبتسم له، وبسخرية لئيمة جدا هذه المرة.
3-
في الأيام التالية بدأت الأمور تحدث بتسارع مدوخ. كان كل شيء يتغير أمام عينيه. حتى الذين عرفهم، أو ظن أنه عرفهم، تغيروا، أو كشفوا عن وجوه جديدة لم يكن يعرف أنها موجودة. هناك شيء ما، حتى في الهواء، غريب! حتى الناس في الشارع لم تعد تسير كما كانت تفعل طيلة عقود، وربما قرون، سابقة.
لم يكن الأمر بحاجة إلى كثير من التفكير، فأحداث ساحة التحرير في القاهرة أبقت السوريين جميعا ساهرين طيلة ليال، ليعرفوا نهاية مسلسل كان يبث على الهواء مباشرة، وعلى مسافة قصيرة جدا من قلوبهم. لم يكن من المسلسلات التي اعتادوا الغفو عليها. ففيها من عصارة أرواحهم، التي أذهلتهم بتوقها إلى التحليق، الكثير. ولم يكن فيها أي نجم تلفزيوني ملمع ممن سرقوا من يوميات الناس شكلها فقط، وأعادوها لهم مع طلب مسبق بالامتنان لأنهم تنازلوا وحاولوا أن يشبهوهم. كان كل شيء حقيقي هناك، حتى الناس بأجسادها التي شكلت كتلا ضخمة معبرة عن نفسها بالصوت أولا، ثم لم يلبثوا أن أثبتوا أنهم لم يحضروا ليطلقوا أصواتهم والسلام. كان أولئك المحتشدون في الساحة يشبهونهم لدرجة بات معها التمييز صعبا. كانت الشاشة تنقل حتى رائحة العرق! كان شيئا لا يمكن وصفه، لدرجة لم يعد أحد يعرف إن كان أمام الشاشة أم داخلها. ولكن بقيت هناك تلك الغصة وهذا الخوف المزمن، عند جواد وغيره. لن يلبثوا أن يهزموا، تونس غير مصر، إسرائيل على الباب، وسواه من المخاوف والآمال في صعود وهبوط مدوخين… إلى أن سقط…
الأيام التي سبقت وتلت السقوط كانت غير عادية. ففيها كان لقاؤه الأول مع لميس بدون عمل ولمجرد أنهما يريدان أن يلتقيا. وفيها أيضا اكتشف كم أن عادل تغير، أو أنه لم يكن يعرفه أصلا. وفيها عرف أنه قد أساء الظن بالحياة وبنفسه كثيرا. وفيها اعترف بأنه يحب، بل وامتلك ما يكفي من الجسارة والإقدام ليقول هذا. وفيها أيضا قالت له لميس بأنها تبادله نفس الشعور ومنذ عرفته. وأردفت، أمام عينيه الزائغتين من الذعر والدهشة، بأن السبب أنها تثق به وبقدراته وتدرك إلى أي درجة هو نزيه…
* مقطع من رواية (حكاية خوف)