الدخول إلى الثلاجة
الفصل الأول
1-
عندما وضع جواد المفتاح في باب المكتب، كان أكثر ما يخشاه أن يكون الخبيث أيمن قد أوصد الباب واضعا نسخته من المفتاح من جهة الداخل، بحيث يمنع أي مباغتة غير مستحبة له وهو في وضعية غير لائقة. مع أن الإنصاف يقتضي القول بأن أيمن كله، شكلا ومضمونا، كان شخصا بعيدا، بمسافة محترمة جدا، عن اللياقة بأي معنى من المعاني التي قد تخطر في البال. فلا وزنه، الذي تجاوز المئة بعشرين كيلوغرام، مقارنة مع طول لم يتجاوز المئة وسبعين سنتمترا؛ ولا سلوكه الفظ، في أحسن الحالات، ومع الجميع؛ يؤهلانه للقول بأنه حريص على تلك اللياقة. إلا في حالات محددة حيث يكون في وضعية الاستلقاء انبطاحا فوق نادية سكرتيرة المكتب المقابل لمكتبه. الوضعية التي لم يكن جواد قادرا على تخيل سواها عندما يخطر أيمن ونادية في باله، ملتحمين ككتلة لحمية ضخمة، مسببة له المزيد من الغثيان. ذلك الغثيان، الذي كان يطغى على مزاج جواد بشكل متقطع، لم يلبث أن ازداد منذ بدءَ عملَه في مكتب أيمن ولأسباب كثيرة، لم تتوقف فقط عند غزوات معلمه الجنسية.
وضع المفتاح في الباب وهو يتخيل محبطا بقية السيناريو. سيحاول تدوير المفتاح، ولن يدور. يحاول مرة أخرى محدثا بعض الجلبة. ولا يلبث أن يسحب المفتاح ويمضي إلى المصعد في آخر الممر، معطيا الفرصة لأيمن ليرتدي سرواله الداخلي ويسرع باتجاه الباب ليفتحه قليلا، بعد أن يتأكد من خلال العين السحرية بأن لا أحد أمام الباب، ثم يشقه قليلا مطلا برأسه الصغير باتجاه الممر ليلمح جواد، فيسعل قليلا قائلا بأنه كان يأخذ قيلولة في الداخل ولذلك أغلق الباب. وكأن جواد لن يعود مرة أخرى باتجاه المكتب، ليقابل عند الردهة خلف الباب نادية وهي تضبط وضع حجابها على عجل مسرعة بالمغادرة وهي تقول بارتباك „راح ارجع مرة تانية لتنظيف المكتب أستاذ أيمن“. تسرع ناظرة بطرف عينها مع ابتسامة ماكرة باتجاه جواد، وهي تردف قائلة „الظاهر إنكن مشغولين“.
تلك الابتسامة بالذات كانت تغيظه أكثر من أي شيء آخر في هذا الموقف السخيف. إذ قد يخطر ببالها أنه بدوره يشتهيها كما يفعل معلمه. وهذه النقطة بالتحديد كانت من الإهانات المغيظة جدا، أكثر من بقية الإهانات، الكثيرة جدا بدورها، التي مر بها في حياته كلها. إذ من هو المعتوه الذي قد يفكر بـ „قفة خراء“ كما كان يسميها وهو يتحدث مع أيمن. الأخير كان يتعمد استفزازه مع ابتسامة ماكرة موحية من جهته، ملمحا إلى أن جواد قد يكون راغبا فعلا في نادية. الأمر الذي كان يدفع جواد لأن يصفها بطريقة يتجاوز فيها ما يراه حدودا لا يجب أن تُتجاوز بحق أي امرأة، كائنا ما كان السبب. أما أيمن فكان يستغرق في الضحك ما أن يسمع ذلك الوصف، وكأنه ما استفزه إلا من أجل أن يقول هذا بحق نادية، مثيرا المزيد من الحنق والإشمئزاز عند جواد. ليس فقط لأن أيمن لا يحترم إمرأة نام معها بحيث يترك شابا يعمل عنده يقول فيها مثل هذا الكلام، وهذا يمس جواد بشكل أو بآخر، فأيمن لا يحترم أحدا ويستفز أياً كان أمامه ليحكي عن أي كان، مهما كان بالنسبة له، بطريقة تعزز قناعة مرضية عنده بأنه أفضل الجميع؛ بل أيضا لأنه يعتقد فعلا بأنه يتمتع بميزة يحسده جواد، وغيره، عليها. ومن يدري، ربما هذا المعتوه قد نقل قناعته هذه إلى نادية التي لن تكون بحاجة إلى جهد كبير لإقناعها بأنها امرأة أحلام جواد الملتهبة، وألفِ شاب آخر سواه! تلك الأحلام التي، وبعيدا عن نادية بالتأكيد، كانت سلوى جواد الوحيدة، بالإضافة إلى أفلام البورنو، على مدار أعوام طويلة من عمر امتد لخمسة وثلاثين عاما دون أي أمل بأن يقترب من امرأة.
ما أن دار المفتاح وتحرك الباب حتى بدأ جواد يشعر بقليل من الارتياح. أخيرا سيتمكن من إنجاز ما جعله مضطرا للقدوم إلى المكتب خلال فترة استراحة الظهيرة. تلك المشاوير التي كانت تحدث لأسباب عملية ملحة كان أيمن يدركها فيضطر إلى قطع غزوته. حتى ولو كان على وشك تسجيل انتصارا مدويا على شاكلة بضع آهات مكتومة، خشية أن يصادف وجودُ أحدٍ في أي من المكاتب المجاورة، ويسرع ليستطلع من في الباب. فإن كان جواد، فيمكن لأيمن أن يؤجل „الانتصار“ إلى وقت آخر. حتى لا يعيق عمل أنشط موظفي مكتبه والعامل الوحيد فيه بالإضافة له وللميس، سكرتيرة أيمن، التي كانت نموذج أيمن في التدليل على أنه لا يخلط اللهو بالعمل. لميس التي بقي أيمن مصرا على التعامل معها بصفتها سكرتيرة فقط، دون أية محاولة للتلميح إلى شيء آخر أبعد من هذا الدور. لأنه لم يقدر على تجاوز حقيقة أنه وظفها فقط بسبب قرابتها من مرافق مسؤول كبير. المسؤول الذي كان أيمن يحلم بأن يُذكر اسمه أمامه ولو عرضا. لذلك لم يتجرأ حتى على النظر إليها، بالرغم من الفارق الفلكي في كل المواصفات بينها وبين نادية، ولو عرضا أيضا.
ولج جواد إلى المكتب واتجه إلى غرفته الملاصقة لغرفة أيمن ليحضر ما جاء من أجله ويغادر كسبا للوقت، ولكنه لمح أيمن داخل غرفته جالسا خلف الطاولة وقد أسند رأسه إلى مسند الكرسي المرتفع. فأدرك، وهو يبستم، أن أيمن يأخذ قيلولته الآن فعلا، لذلك لم يوصد باب المكتب من الداخل. توجه إلى الغرفة بسرعة، أخذ الملف وعاد باتجاه الردهة المؤدية إلى الباب الخارجي. وهناك تذكر أن عليه سؤال أيمن عن تفصيل، ليس مهما، ولكن قرر فجأة أنه يجب أن يراجعه فيه قبل أن يقابل الزَبون الموعود مساء قبل العودة إلى المكتب. فعاد إلى غرفة أيمن بابتسامة عريضة. سيكون ممتعا جدا أن يوقظ أيمن من تلك القيلولة اللذيذة ويسبب له ضيقا كنوع من انتقام، ولو خفيف، من فظاظة أيمن معه ومع الجميع.
دخل إلى الغرفة وأطلق سعالا خفيفا متوقعا أن يستفيق إيمن ببعض ذعر، لن يلبث أن يتحول إلى ضيق واضح. ووطن نفسه على أن يحاول إخفاء ابتسامته قدر المستطاع. ولكن أيمن لم يتحرك. اتجه إلى الطاولة وقرر أن يهز كتف أيمن قليلا ليوقظه غير مدرك أن الأخير لن يستيقظ من تلك القيلولة أبدا. هذا الإدراك الذي تأجل قليلا ما أن لمح، وقبل أن يصل إلى كرسي أيمن، حقيبة كبيرة موضوعة أسفل الطاولة. سحاب الحقيبة العلوي كان مفتوحا على سعته كاشفا عن رزم مالية، بأوراق من فئة الألف ليرة. قدر جواد ومن خلال حجم الحقيبة الكبير ورزمِ المئة ألف ليرة فيها، أن المبلغ الموجود داخل الحقيبة يتجاوز العشرة ملايين ليرة بالتأكيد.
2-
عندما وصل جواد إلى مدخل البناء جارّا الحقيبة الثقيلة خلفه على عجلاتها، أحس بتيار هوائي بارد يدخل من باب المدخل الزجاجي المفتوح. عندها، وعندها فقط، أدرك أنه قد وصل إلى نقطة عليه إما أن يعبرها، أو يتوقف ويعود من حيث أتى. كان كل همه خلال الدقائق العشرين، التي امتدت ما بين اكتشافه لوجود المبلغ عند قدمي أيمن، الذي فارق الحياة، ووصوله إلى مدخل البناء، أن يتأكد من أنه لن يصادف أحدا من شاغلي المكاتب المجاورة في البناء خلال خروجه وهو يحمل الحقيبة. وهذا ما حدث فعلا. وهاهو يقف أمام الباب، وربما الفرصة المتاحة له لا تتعدى بضع لحظات وعليه إما أن يمضي أو يعود.
كانت العشرون دقيقة الماضية أطولَ دقائق مرت عليه في حياته كلها. تصرف خلالها تقريبا بصورة آلية. إذ بعد صدمة اكتشاف وفاة أيمن، وبعد أن هز كتف الأخير فتدلى الرأس وكاد الجسد أن يقع من فوق الكرسي، سارع فورا وبجهد كبير إلى إعادة الجسد إلى نفس الوضعيه التي كان عليها. وبعد أن نجح بصعوبة بالغة، توجه فورا إلى الهاتف ليتصل. ولكن ليتصل بمن؟!…
أيمن مطلق من زوجته الثالثة قبل ستة أشهر. وكان قد باع منزل الزوجية حتى قبل أن يتم أوراق الطلاق، وبعد أن غادرت الزوجة إلى منزل أهلها غاضبة من خيانة جديدة اكتشفتها بالصدفة، متوقعة أن يصالحها بعد حين. ولكنه، وعلى عادته، باغتها وباع المنزل حتى لا تحجز عليه مطالبة بمؤخر الصداق. المنزل الذي كان أول ما ستفكر فيه الزوجة المغدورة ضمن شبكة أملاك وعقارات أيمن، التي لا يعرف حتى الجن الأزرق كيف يدخل إليها، وكيف يخرج منها بنتيجة واضحة إن ابتلي بالدخول أصلا. أسرته، عدا عن ولدين من زوجته الأولى، لا أحد. والده ووالدته فارقا الحياة. أخوته الثلاثة مهاجرون إلى أمريكا وأوروبا. شقيقته الوحيدة الباقية في البلد، والتي لا يعرف جواد رقم هاتفها، في حالة حرب أهلية معلنة معه على قطعة أرض تركت معلقة من تركة الأم. كان أيمن قد ادعى، وبعقد موقع من قبل الأم، بأنها باعته تلك الأرض قبل وفاتها، وتصر الشقيقة على أن العقد مزور.
الاحتمال الثاني الذي خطر بباله هو الاتصال بالشرطة، وفعلا رفع السماعة وهم بطلب رقم النجدة. ولكنه توقف قليلا وهو ينظر جهة الحقيبة. أول ما خطر بباله هو أن المبلغ سيدخله في سين وجيم مع الشرطة، وبالتحديد الأمن الجنائي الذي سيحضر فور التبليغ عن الحادثة. وربما، ولفرط ذكائهم المعروف جدا وللجميع، سيظنون بأنه قام بتسميم أو خنق أيمن بسبب المبلغ. ولن يخطر ببالهم، على الأقل للوهلة الأولى، أنه لو فعل هذا فإنه سيهرب بالمبلغ ولن يبقى ويبلغ عن حادثة الوفاة، وينتظرهم أيضا. ولكن إلى حين وصولهم إلى الاستنتاج الطبيعي والذي ينافي كل ما هو معروف عنهم من „ذكاء“، وشراسة، مع محاولاتهم المستميتة لإلقاء الرعب في قلوب الجميع، كنوع من رد اعتبار مفقود لأسباب كثيرة جدا يعرفها الجميع أيضا، ويعرفون أن فروع الأمن المختلفة، المخابرات، الأكثر صلاحية وسطوة، وبكثير، من الشرطة العادية وأمنها الجنائي، تلعب الدور الأول فيه، إلى حين ذلك سيكون جواد قد أهين أكثر من مرة. فقط من باب التسلية، وربما بعض المزاح الغليظ، وقليلا من التنفيس.
ثم هناك تقرير الطبيب الشرعي. وجواد حتى اللحظة لا يعرف فعلا ما هو سبب وفاة أيمن. وإن كان قد قدر أنها طبيعية بسبب نمط حياة أيمن المبالغ في كل شيء. طعام سيء ونساء أكثر سوءا وتدخين شره وكحول بشكل يومي؛ ووزن زائد جدا؛ وثلاثة شرايين مسدودة تم تركيب شبكات لها مع تحذير شديد في كل مرة أنها قد تكون الأخيرة؛ والظاهر أن التحذير الأخير كان الأكثر دقة. ولكن مع ذلك فجواد لا يعرف إن كان الطبيب الشرعي سيصل إلى نفس النتيجة التي وصل هو إليها أو أن هناك أشياء جديدة ستظهر، وبالتالي ستكون مصيبة قد حلت على رأسه.
أعاد السماعة إلى مكانها وجلس قليلا محتارا ماذا يفعل. وتذكر أن أحدا لم يعرف بقدومه إلى المكتب ظهرا، فالوقت وقت استراحة الغداء. وهو أصلا لا يحضر صباحا إلى المكتب في بداية الدوام، إذ عليه أن يكون موجودا في وظيفته الرسمية حتى الحادية عشر على الأقل. عمله مع أيمن هو العمل الإضافي الذي يمارسه مع وظيفته الرسمية لتحسين دخله. بعد الحادية عشر، إما أن يتوجه إلى المكتب أو يذهب مباشرة لمراجعة أحد الزبائن. في بعض الحالات، قد يحضر قبل موعد الاستراحة في الثانية ظهرا، إن كان هناك أمر يستدعي قدومه إلى المكتب، أو يمضي إلى بيته ويعود في الخامسة مساء موعد الدوام المسائي في مكتب أيمن. اليوم بالذات كان فعلا قد حضر في الحادية عشرة والنصف صباحا إلى المكتب. وقبل المغادرة لجولة على بعض الزبائن، أبلغ أيمن أنه سيتأخر مساء في القدوم بسبب موعده مع زبون آخر جديد. وكان هذا على مسمع ومرآى لميس. إذا فحجة غيابه متوفرة ولا مشكلة عنده، إلا إن لحظ أحد من شاغلي البناء وجوده في هذا الوقت. وهو أمر مستبعد مما يعرفه من عادات شاغلي البناء الذين لا يتواجدون، إلا فيما ندر، خلال فترة استراحة الغداء. لذلك فعليه المغادرة فورا تاركا أيمن لتكتشف لميس بنفسها أمر وفاته وتبلغ قريبها، عنصر المخابرات الذي يعمل مرافقا للمسؤول الكبير. القريب الذي سيحضر هو وجماعته قبل وصول الشرطة، وسيتولون بالتأكيد كامل الأمر. ويخرج جواد بالتالي من إزعاج لا يستحق أن يعيشه من أجل أيمن الذي كان مصدر إزعاج كبير له في حياته. فليتركه جواد ليرقد وحيدا بسلام ساعتين أخريين موفرا على نفسه إزعاجاً جديدا وكبيرا، قرر أيمن أن يوقعه فيه حتى وهو ميت.
* من رواية حكاية خوف
وفعلا توجه إلى باب المكتب وهو يتخيل ردة فعل لميس عندما تحاول إيقاظ أيمن، كما حاول هو أن يفعل قبل قليل، فيقع أيمن وتقفز لميس من مكانها مذعورة وتتصل بقريبها الذي سيبلغها بلهجة آمرة، لا تحاول إخفاء حرص كبير جدا عليها، ألا تلمس شيئا ولا تفعل شيئا لحين حضوره. وسيحضر بسرعة ويتصرف كخبير أمني خطير، نافشا ريشه أمام الصبية التي علم من أيمن أن القريب العزيز متعلق بها وقد يطلق زوجته ويقترن بها. وربما هذا السبب الرئيسي الذي جعل أيمن لا يفكر بلميس حتى في أحلامه. وسيكون زواجا سعيدا جدا بوجود هذا المبلغ… وهنا بالذات، حين خطر المبلغ المتروك عند قدمي أيمن ببال جواد، توقف الأخير أمام باب المكتب من الداخل وعاد أدراجه إلى غرفة أيمن من جديد.