حقيبة سفر تتسع فقط للحن جنائزي يودع الوطن
حينما تحدد ميعاد السفر واستلم التأشيرة، ووجد جواز سفره ممهورا بالتوقيع من أحد الموظفين الأوروبيين المندوبين الساميين، ورأى في „باسبوره“ „الفيزا“ مختومة، اختلج قلبه بدقات الفرح، والبهجة والسرور، وقرر أن الأوان قد آن للاحتفال بالمناسبة السعيدة وعزم على أن يذهب للغرزة، ويتجرع من الكيف ما شاء عليه واقتدر، وليودع رفاق الغرزة، والسيجارة، والكأس والخمارة.
وتلقفت قدميه شوارع ضيقة، وسلمته إلى شوارع أضيق منها، ثم ضاقت تلك وصارت حارات وأزقة، وكان مبتهجا وسعيدا، وقد تكيفت بالفعل رأسه بفعل الفيزا التي تختم صفحة من صفحات باسبوره، واصطدم به أحد المارة، المُجلببين، وكان رجل قصيرا حقير المهنة بائس الخلقة، ولم يتضايق صاحبنا بالصدمة، بل واصل طريقه إلى الغرزة.
وهناك تلقفته الأدخنة، والتحيات، وقال أحد أصحابه:
- ماذا جرى لك وأين أراضيك؟ لم نرك منذ شهور؟
فأجاب وهو يتلقى الدفعة الأولى من أنفاس الجوزة، ويملأ صدره بالكيف:
- كنت غارقا في مشاوير السفارة، أُدبّج الأوراق، وأجمع الشهادات والأوراق المطلوبة استيفاءها، كي أنال الفيزا، ونلتها على خيرة الله، واليوم جئت لأودعكم يا حبايب.
وانهالت عليه الأمنيات والتهانئ، وصاح أحدهم:
- ستفارقنا، حقا ستغادر أرض الجحيم!! يا ويلك.. وكيف ستقوى على فراق المصير والمقسوم؟
ولم يبال بالسؤال، وإن اعتبره جملة وداع عابرة، وانتقلت الجوزة من كفه إلى كف زميله، وفي الأضواء الخافتة، مال عليه وجه، ملامحه غليظة، وصاحبه متجهم ومكروب أشد كرب، وسأله:
- هل صحيح يا أستاذ إن هناك فرصة للواحد للسفر ومغادرة هذا البلد ابن القديمة؟
فنظر لجاره بتمعن، وتفحص ملابسه وخلقته، وكانت هذه هي عادته، تقييم الناس من ملابسها، ومن حُسن ملامحها، فإن كانوا رث الثياب، صنفهم في خانة الوضيعين، وإن كانوا يواجهون الخلق بوجوه مرسومة وسيمة، لم تتشقق جلودها من الشقاء، ولم تعتل أبصارهم من السهر في ورديات العمل المتعاقبة، فهم ولا شك أبناء نعمة، وينتمون إلى عائلات كريمة ثرية، وحينما لمس غلظة ملامح جاره، والكرب الذي ينطلق من عينيه مشعا، غمغم في نفسه تخوفا من الحسد:
- بسم الله ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
ثم بعد برهة، وبعدما جذب عدة أنفاس من بوص الجوزة التي أنهت دورتين، وعادت إلى كفه:
- يا حبيبي السفر رزق ومكتوب، وكله مقسوم، إن كان لك خير في أرض غير الأرض، ستناله، انظر إلى جبينك، المكتوب عليه ستراه عيناك.
وقد شعر أنه قد امتلأ بالحكمة من أثر الفيزا الشنجن ، بينما صدره يدور، والأنفاس صاعدة من فيه، مغادرة منخاره، وسعل سعلة، وربت على صدره، مبتسما، وجواز سفره في جيب سترته، يدفئ قلبه.
وحينما مد النهار للدنيا شعاعا واحدا، قرر أن يغادر الغرزة، وقادته قدماه للخارج، وقادته قدماه في الطريق إلى المقابر، ورأسه منتشيا من الدخان، ووقف أمام شاهد قبر أبيه وأمه، وكانت على شفتيه بسمة واسعة مسترخية، وعيناه تجول فيهما نظرات الطمأنينة المستقرة، وحينما قرر أن يرفع كفيه ليقرأ الفاتحة، شعر بتثاقل أعياه عن مد ساعديه للسماء لقراءة السبع المثاني، فبدأ يرتلهما بصوت هامس، تقاطع مع نسيم الريح، ونباح لكلب، وتمتم بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، وبسمل وحوقل، وقال وهو يملأ صدره من هواء أول النهار البارد:
- اللهم نجنا من البلد الظالم أهله..
ثم بعد قليل بدأت تنتابه مشاعر من نوع آخر، بدأ يفتقد كل شيء، وحملق في شاهدي قبر أمه وأبيه، وقرأ المكتوب: هنا يرقد المرحومان بإذن الله سيد سيد البغدادي، وقرينته الحاجة زينب محمود نصر ياسين.
وشعر بالأسى، أنه سُيحرم من زيارة قبر أبيه وأمه، وأمسك قلبه، ولكنه بوعيه الباطن كان يمسك باسبوره، لكن قلبه هو الذي بدأ يخفق خفقان معاكس لخفقان البهجة والسرور والفرح، وانتابته حسرة مباغتة، وبدأ يقول لنفسه:
- سأرحل عن الأرض التي يحتضن ثراها أبي وأمي..
ثم خطا مبتعدا عن الحوش، كأنه يخشى كما لو كان عفريت قد تلبسه هناك وبدأ يٌعيد ترتيب أفكاره، من أين بدأ شجنه؟ سأل نفسه، ألم يكن سعيدا مبتهجا، ومن الكيف منتشيا، فكيف اعترضت الأحزان طريق بهجته؟ وقال لنفسه ربما انفجرت أحزانه من زيارة المقبرة، فحث الخطو مبتعدا كأنه لُدغ من عقرب، وبرزت في طريق في عودته عربة فول مُلونة بالألوان الفلكورية المعتادة الأحمر والأخضر، ويقف عليها زميل الغرزة المتجهم ذو الملامح الغليظة، وقد استلم موقعه مُطعما للخلق، يصب في حماس الزيت الحار على أطباق الفول التي تنتظرها أعين الملتفين حول العربة بشهوة وشوق، فانضم لركابهم، وانتظر دوره، وطلب من كل الأصناف التي تمنحها العربة للجائعين طالبي وجبة الإفطار المبكرة قبل الذهاب إلى العمل، طلب الفول بالزيت الحار، والطماطم المخللة، والباذنجان المقلي المدهوس داخله الثوم المُشتهى، والبيض المسلوق، والطعمية المقلية في زيت أسود غُلي مئات المرات في طاسة القلي التي نافس سواد قعرها حلكة الليل، والجرجير، والبصل الأخضر، وقرون الفلفل الأخضر المقلية „الحارة“، وأرغفة العيش البلدي، خمس أو ست أرغفة أخذ يفركها ببعضها بعضا متخلصا من الردة كي لا تصيبه بحشرجة يتبعها سعال يجعله يفرغ ما التهمه، وكانت حساسيته من الردة قد صاحبته منذ الطفولة كداء، وأعجزت الأطباء عن مداوتها، وانقض يطحن كل هذه الأطباق بقوة وحماس، كأنه سيودع الدنيا، وليس البلد.
ثم نقد الرجل صاحب عربة الفول ـ زميل الغرزة ونديم الكيف- أجر الطقة، وغادر مبتهجا، وقد تعاظمت داخله البهجة وانتصرت على سحائب الغم والضيق التي لفته عند حوش أبيه وأمه.
ولكن بعد عدة خطوات بدأ صدره يغتم، وعاد قلبه يخفق بشدة، كأن أمرا عصيبا سيفوته، وأمسك صدره مرة أخرى، متحسسا جيب سترته، فوجد الباسبور، وداخله الفيزا، „فيزا الشنجن“، التي ستدخله أخيرا إلى أوروبا، محققة أمله في الهجرة، لكنها لم تستطع مع ذلك أن تهدئ من روعه، ثم قطع خطوات قائلا:
- أفُ. ماذا يسعد الإنسان الوضيع…؟ لا شيء في هذه الأرض يبسط حتى بعد جلسة كيف وإفطار شهي من عربة فول.
وخطا إلى منزله، وقد أدرك أن قدميه قد أوصلتاه رغما عن ضيقه، وغمه الذي حمله على كتفيه في الطريق، وغمغم وهو يدس مفتاحه في باب الشقة كأنه يبحث عن إجابة لسؤاله:
- ربما صحبة امرأة.. ربما مضاجعة!!
وحينما دخل بيته، أخرج باسبوره، وفتح صفحة التأشيرة، فوجد الفيزا نائمة لم تزل مختومة في الصفحة، ختما بارزا تحسسه في حنو بأنامله، فمنحه شعورا سعيدا مبتهجا.
وألقى بنفسه على الفراش، وكل مرة يهمس بكلمة “ الشنجن“، كما لو كانت سترد عليه النداء، وأخذ يتأمل حيطان حجرة نومه المترعة من الأرض إلى السقف بأرفف الكتب المكدسة تكدسا رهيبا، حتى أن بعضها يكاد أن ينزلق ويسقط من صعوبة „الحشر“ وضيق المساحة التي تسمح للكتب أن ترقد مرتاحة فوق بعضها أو متجاورة في تراخ، وانتابته المشاعر الأسيفة مرة أخرى، ودار بخلده أنه سيترك وراءه الكثير، كتبه أول ما سيضحي به، ثم رفات أمه وأبيه، ثم عربة الفول، وزيارات الغرزة، والحارات التي حفظت أقدامه بلاطها، والشوارع التي تسلمه بعضها لزملائها كي يصل طريقه ولا يضل، وتبين أن عليه البدء من جديد كأي طفل حينما يهاجر، وأن عليه أن يلقن قدميه وقد بلغتا معه نفس عمره الخامسة والأربعين، شوارع جديدة، ومسافات جديدة، وبات عليه أن يكتشف مواقع اللهو والتسلية، ويُكّون رفاقا ويتعرف على أصحاب، ويزرع ألفةً بينه وبين الناس ويخفق قلبه من جديد بمشاعر الاطمئنان والابتهاج لجيرانه، وبدأ يدرك ما هو قادم عليه، الخوف بديلا لكل مشاعر البهجة والسرور التي يتبادلها مع القهوجي والجار والبقال والنعّال والكواء والجزار والفاكهي، لأنه سيستبدل بهؤلاء أناسا آخرين، وسيكون عليه أن يتعامل مع بارمان في كافيه أفرنجي وليس قهوجي في قهوة بلدي، كما سيكون عليه أن يكون وحيدا في سوبرماركت بينما يشتري خضرواته وفاكهته، وربما يزن بنفسه أشياءه، ويحاسب عليها دون أن يتبادل نكتة فاضحة مع بائع، أو مع عامل..واللغة..كيف يصوغ نكاتا جديدة في لغة جديدة..!! وأين اللغة التي تستطيع استيعاب كل هذه الكفاهة والنكات الجارحة والتهكمات المتدفقة بسرعة وسلاسة كرصاص الكلاشينكوف، أيجب عليه أن يقضي عمرا آخر يستكشف ويتعلم المزاح وصناعة التهكم في لغة أخرى.
وأسقط في يده.. الغرزة. كيف تُعوض الغرزة…؟ كيف تُعوض الأنفاسُ الزرقاء..؟ بما تحققه من كِيف ونعيم وبما تجلبه من مزاج يُنسي ويؤنس…؟
وبدا النهار الذي اكتملت هيمنته خلال هذه الساعات، وكان يجب أن يُغط خلاله في النوم كما هي عادته، بدا يُشوش عليه هجوعه، وأخذ يتأمل الفيزا بقلق، وشحبت عيناه، وأخذ يبحث عن حل.
وانقضى النهار، وكان لم يزل مضجعا في فراشه، عاجزا عن أن يبرح أو ينام، وطال استغراقه في تأمل التأشيرة، حتى قرر قرارا، وأخذ في تنفيذه، وبدأ بكتبه.
جلب حقائب كبيرة، وأخذ يعبأ فيها الكتب، بصبر وأناة، استغرق هذا الأمر منه خمسة أيام كاملة، حتى خلت المكتبة الضخمة من كتبها، وصارت معبأة كلها في حقائب السفر، لم يستبعد كتابا واحدا.
وانتهى أخيرا وصار عنده أحد عشرة حقيبة، وبات لا يدري كيف يسافر بكل هذه الكتب، وكيف يمرق بها من المطار، لم يخطر له أبدا في بال أن لديه حد أقصى لوزن الحقائب مُحدد سلفا ، لم يخطر له ذلك في بال لأن فكرته كانت تقوده وتعميه عن أن يرى أي شيء آخر.
صار عليه تجريف الشوارع، الشوارع التي خطا فيها، وحفظها، وحفظ أسفلتُها قدميه، وبدأ يعمل ليلا في هذه المهمة العويصة ،يجرف قطعا أسفلتية ضخمة، وينقلها بأناة في سيارة نصف نقل استأجرها من أجل المأمورية التي كلف نفسه بها، وكان يدق أسفلت الشوارع بفأس من الصلب تطلق طرقاته صخبا وضوضاءً غير هينين، ولاحظه الناس وهو يعمل، فتجاهلوه لمعرفتهم بتعقله ورزانته، لكنهم استغربوه حينما رأوه ينقب في شوارعهم على غير ما عهدوه منه من تعقل ورزانة، كان مرحا بشوشا، محبا لجيرانه، وطيبا ودودا، يبادل الجميع النكات، أحيانا كانت تشوب تحياته لهم تعاليا ظاهريا، وأحيانا كان تعاليه غير مقصود، لكنه كان متعاليا هذا مؤكد، وهكذا انفلتت نفثات غاضبة من بعض ضحايا تنمره وتعاليه، وبلغت النفثات الغاضبة الحكومة، فكبست الشرطة منزله، وهال الضباط ما فعله بالكتل الحجرية من أسفلت الشوارع إذ رصها في حقائب سفر امتدت لتحتل شقته كلها، ولم تترك مكانا لموطأ قدم.
وبعد تحقيق متعجل، وليلة قضاها في التخشيبة، قضت النيابة بإطلاق سراحه على أن يدفع تعويضات للحي نظير ما أفسده من نقب شوارع المناطق التي نقبها، وبالفعل تلقى على منزله إعلان محضر من الحي بالغرامة التي يجب عليه أن يدفعها، فدفعها مستسلما مغمغما لروحه:
- قلبي على بلدي انفطر وقلب بلدي عليّ حجر.
ثم بدأ يسعى في اقتناء أشياء أعجب من أسفلت الشوارع، وكتب مكتبته..
ذهب للرجل الغليظ صاحب عربة الفول، ودعاه أن يبيعه العربة، فقال الرجل مندهشا:
- تشتري إيه يا أستاذنا الفاضل…؟ عربة الفول.. تلك التي أسرح بها..؟
فأومأ برأسه إيجابا بينما يلوك في استعذاب لقيمات الفول، والباذنجان المقلي والبصل الأخضر، والطماطم المخللة، والطعمية المقلية بالزيت منتهي الصلاحية، فرمقه الرجل بتعجب، ثم سأله:
- ألم تحصل على التأشيرة، وستهج؟
فأجاب الرجل موضحا:
- وأريد أن أصطحب عربة الفول معي..
فبهت الفوال، وربت بكفه الضخمة على „قدرة الفول“ الألمونيوم الضخمة التي تتسع لثمانية كيلوجرامات كل طبخة، وقال:
- كما نقول مجاملة: العربة وصاحب العربة، لكن يا أستاذنا..ماذا تفعل بعربة فول في أوروبا؟
- هي أيضا ستهاجر، لحسن الحظ لن تحتاج تأشيرة، سأشحنها على السفينة، لا أريدك أن تنظفها أو تزيل الوسخ من عليها، أريدها كما هي، وأريد الأطعمة معها أيضا، اترك كل شيء، الطعمية والفول والبطاطس والطماطم والجرجير والبصل الأخضر والزيت المقلي الفاسد، كل شيء كل شيء.
وتراجع الفوال وأخذ يفكر في المسألة، ثم قال:
- أعذرني يا سعادة البك، هذا مشروعي، ومشروع أولادي، فيه مستقبلهم ومستقبلي، و“القِدرة“ هذه ـوهو يربت على „القدرة“ الضخمةـ داخلها تقبع روحي، وهي قطعا ليست للبيع ولا للتجربة في أية مغامرة.
واستعر الجدال بينهما، وصاح صاحبنا مستفزا بلهجة متهكمة تهكما جارحا بعدما أعياه النقاش مع الفوال، وقد أغضبه تمسكه بعربته و“قدرة الفول“ لاكًا آخر لقيمات وجبته:
- يعني أنت ساقط من سجل البشر المحترمين، معدود بين الناس صاحب عربة فول، يصفعك كل مخبر وكل أمين شرطة فتمنحه طبقا لتزود عن نفسك ظلمهم وفساد الحي الذي يطالبك بأرضية، وتخضع وتطأطأ رأسك لكل موظف درجة عاشرة من مجلس المدينة يهددك بالطرد من الشارع، أو ترشو كل دورية بلدية كي لا يصادروك أنت وعربتك وقدرتك، وتتعنت معي أنا هكذا تعنت وتستعرض عليّ عضلاتك وترميني بكلام أجوف عن الأحلام والكنوز والهراء، وكنت من أيام على وشك أن تبوس حذائي لتعرف كيف تهج.
فلوح الفوال بالمغرفة الألمونيوم، وصرخ في وجهه مهددا:
- احترمتك وعملت حسابا لبذلتك، لكن قسما بالمولى في سمائه، إن لم تخف الآن من أمامي لخرطت أصابعك وألقيتها في الزيت مع الطعمية. أخف.
فابتلع إثر التهديد آخر لقمة مغموسة في الفول الحار، منقلعا من موقعه على العربة، وإن قرر أن يستولي على العربة في المساء، وبالفعل تتبع الفوال، إلى حيث يصطحب عربته حيث يسكن في عشة من العشش المجاورة لمزلقان ناهيا بالدقي، وفحص الموقع، فأدركته الغشاوة، وتاهت عنه مخاطر الفكرة، وصعوبة التنفيذ، وساقه هواه، غير متبينا ما تنتظره من مغامرة غير محسوبة.
في الليل، بينما يحاول تطفيش القفل الذي يضعه الفوال على جنازير العربة التي تقيدها إلى سور عشته، سُمع هسيس حركته، وانشقت الأرض فجأة عن الفوال وزوجته، وعشرة أبناء متفاوتي الأعمار والطول، وهوى الفوال على رأسه بمطرقة خشبية يطحن بها الفول ليعجنه ليحوله إلى فتات صالح ليصبح عجينا للطعمية، فانفجرت نافورة دماء من رأسه، ولم يدر بروحه إلا في المستشفى مستفيقا بين يدي ممرضة محجبة لكنها ممشوقة القوام فاتنة وينبعث منها عبير نفاذ جعلها مثيرة جنسية بطريقة عجز عن تفسيرها، ولم يستطع أن يرفع ناظريه عن وجهها ولا عن ملامحها التي كان أبرز ما فيها شفتان ممتلئتان ومخضبة بالروج الأحمر القاني بلون الدم، وتلقى كلمات من طبيب كان يفحصه متوترا، وعلى مبعدة جلس ضابط ينتظر إفاقته بضجر وتعجل بينما يدخن سيجارة „كليوباترا“ وينفث دخانها في عنبر المستشفى الحكومي.
وحينما لمحه الضابط يفتح عينيه، سأل الطبيب بتردد:
- أيستطيع الإجابة الآن على الأسئلة؟
فلوح الطبيب بكفه الأيمن أمام وجهه، يمينا ويسارا، كأنه لا يصدق استرداداه وعيه، لكن الرجل امتدت يده إلى صدره، وتحسس جيب سترته، فوجد جواز السفر راقدا فيه لم يزل، فهب الضابط من مكانه، قائلا:
- ما حكاية عربة الفول التي كنت تنوي أن تسرقها؟
فالتفت الطبيب للضابط قائلا:
- إصابة رأسه لا تسمح الآن بأية استجواب..
فقال الضابط في ضجر محتدا:
- وأنا لن انتظر أكثر مما انتظرت.
فصمت الطبيب متوجسا من إثارة المشاكل مع الضابط، وغادر العنبر نافضا يديه من المسألة، وبقي الضابط، ورمقه بنظرة صارمة تنطق غضبا، وتقذف شررا، وقال مرة أخرى:
- سأمهلك يوما، ستكون خلاله مقيد الحركة، وعلى عنبرك أمين شرطة، بعدها سنأتي لك لاستجوابك، الفوال يتهمك بسرقة عربته، لولا أنه كاد يقتلك لولا أنك الآن على فراش في مستشفى ولست نزيلا في التخشيبة.
وغادر وهو ينفث دخان سيجارته، وأسقط في يد صاحبنا، إذ اكتشف هذه اللحظة أن عليه أن ينقل رفات أمه وأبيه أيضا إلى حقيبة من حقائب السفر، وأن كبوة عربة الفول التي أسفرت عن رقاده في المستشفى والتحقيق مع الشرطة قد تُعطل سفره، واحتار كيف يغادر محبسه في المستشفى، وعادت في هذه اللحظة الممرضة الفاتنة بعدما كانت قد غابت دقائق خارج العنبر، وأعاد اكتشاف ساعتها كم هي جميلة، وفاتنة، ورمق خصرها، وعجيزتها، ونهديها، وأسقط في يده للمرة الثالثة، وحار في المسألة: أي حجم من أحجام حقائب السفر يتسع لها؟ .